قصص وحكايات من التراث الفلسطيني
3 مشترك
عبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير الإســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام :: (( عبير )) الاقسام العامة :: فلسطين في القلب
صفحة 1 من اصل 1
قصص وحكايات من التراث الفلسطيني
قضوة عشائرية
إلى الغرب من بيسان ، وعلى سفوح جلبون الشرقية ، وقف ذاك الراعي الشاب بقامته الطويلة ، وجسمه النحيل ، يستند على عصاه ، وإلى جانبه السامر و المرياع(1) ،أمام قطيعٍ من الضأن ، يستدرجه ببطءٍ شديد ، ويستميله للعشب المنتشر بكثافة ، يزين الجبال والتلال ، و يكسوها بفروٍ لينٍ كث ، غلبت طراوته على خشونتها و وعورتها .
حمل شبابته ، عزف عليها ، انسجم القطيع ، فلا تكاد تجد فيها ثاغيه ، اسبلت أعناقها ، تهمس للعشب وتسِرُّ إليه ، و تميل برؤوسها حيث مال ، تشمشمه و تناجيه .
هاله المشهد ، فجلس واسترخى ، أخذ يتأمل ما حوله بعمق ، غاب عن الوجود ، لم يعد يعي ما يدور حوله ، ذاب في ذلك الكون العجيب المترامي ، هام في أسراره ومعجزاته ، أسرته خلابته ..... فيا لعظمة الخالق ! و روعة إبداعه ...! أي سحرٍ تتمتع به هذه الأرض ! و أي جمالٍ وبهاءٍ هذا ! لِمَ لَمْ ألحظ هذا الحسن الأخّاذ من قبل ؟ ما له اليوم استفزَّني ؟ و طغى على سمعي وبصري و فؤادي ؟ فبدت لي الأشياء على غير عادتها ، حتى عيون المجدَّعة التي أُكحِّل ناظري بمرآها صباح مساء وهي تتهادى بهدوءٍ ووقار ، كعروسٍ بارعة الجمال ، ينساب ماؤها عذباً رقراقاً يخلب العقول ، أراها اليوم يتدفق ماؤها ثراً غزيراً له شغيرٌ و هدير ، وعلى عجلٍ يضم الثرى بشوقٍ و رفق ، و يمضي و قد أسدل عليه غشاءً رقيقاً يقيه قيظ الغور اللاهب ، وكذلك الطيور تحوم فوقها كأطول صفٍ رأيته في حياتي ، أقبلت واحداً واحدا تعانقها و تطيل عناقها ، و تطير بعيداً ، ترفرف بأجنحتها، وتنظر خلفها إلى أن يبتلعها الأفق ، كأنها تودعها .
فَزِعْتُ ، أحسست برعشةٍ تسري في بدني ، انتفضت ، هربت ببصري بعيداً عنها ، ذهلت ، دُهشت أكثر وأنا أرى نهري العاصي و الجوسق (1) يمران أمام عيني مر السحاب ، تشتد وتجِدُّ في الطلب ، يطرد بعضها بعضاً ، كأنه سباق خيلٍ جُرد ، عربية الشكل واللون و الخلق . أنحبس بصري ، تجمد عندها ، دخلت معها السباق ، فعبرت الحقول و البساتين ، استقبلتها بيسان بعروبتها، وعروبة الأشياء فيها ، طافت في شوارعها ... تحركت الكائنات معها...شدت بلابلها ، زغردت نساؤها ، رفرف الدّوريُّ فيها ، تمايلت أشجارها ، ماست أغصانها ، ماجت بيسان ، توهجت ، تألقت ، وقفت على قدمٍ وساق ، ببدوها وحضرها و فلاحيها ، هتف الصغار، لوَّح الكبار ، لوَّحت معهم ، رفعت يدي عالياً ، تطاولت ، ابتسمت ، ضحكت ، قهقهت ، صرخت ، أفقت .
فركت عيني ، تلفت حولي ، هل رآني أحد ، أفي حلمٍ أنا ؟ ... وقفت على قدمي ، تمطيت ، لم يكن بجانبي سوى السامر والمرياع ، ... ابتعد القطيع كثيراً ، ركضت نحوه ، سبقني السامر ، ولحق بي المرياع ، وصلت القطيع ، فلملمت شمله وجمعت شتاته ، درت بعيني عليه ، تفقدته ، هدأت أنفاسي ، أخذت أسترجع ما حدث ، لم يطل ذلك فدوى صوت كسر علي خلوتي وحديث نفسي ، فقلت : لا .. لا ، لم أعره انتباهاً .
تعاظم الصوت ، اقترب ، غلبتني عيناي ، نظرت ، إنها امرأة تلوِّح بيديها ، تطلب العون والنجدة ، و تشير نحو ناقةٍ ندّت ، راجعت نفسي ، ترددت ، تحققت أنني في يقظة .... إنها ناقة أبي شلاش .... اندفعت نحو الناقة ملبياً النداء ، علّني أردّها إليها، رفعت يدي ، بسطت ذراعي ، حاولتها ، لاوحتها ، ازدادت الناقة جموحاً و هيجاناً ، قذفتها بحجرٍ أصابها مقتلاً ، كسر قامتها ، سقطت الناقة . صرخت الأعرابية : قتلت ناقتي ، وعلا صوتها ، فتجمع الأعراب ، خفت على نفسي ، هربت أتدبر الأمر ، تركت قطيع ماشيتي لأحد الرعاة ، حثثت الخطى ، لم أصدق ما حدث ؛ تمنيت لو كان ذلك مخيلة ، ولكن هيهات هيهات .
وصلت إلى أخي نافع وقد أثقلني الهم والغم ، وعسكدت الدنيا في عيني وعلا وجهي قتام ، فأخبرته الخبر .... تظاهر بعدم الاكتراث و بسّط الأمر وهدّأ من روعي ، و طمأنني قائلاً : (( بيننا وبينهم القضاء )) ، وارتسمت الجدية على ملامحه و قفلنا راجعين ، وقبل أن نصل إلى رحالهم ، تركني أخي في بيت أحد معارفه مقابل بستان الشيخ فايق ، واصل مسيره إليهم ، وما إن وصل بيت الشيخ علي الفارس حتى لهجوا جميعاً وبصوتٍ واحد : جاء أخوه نافع، بادر أبو شلاش صاحب الناقة قائلاً : ضرب أخوك ناقتي ، فكسرها ، وأريد ثمنها . فقال : ولماذا ضرب الناقة ؟ أعدواناً وظلماً ؟ فقال أبو شلاش : لو كان كما تقول لترتب عليكم أكثر من ثمنها . قال نافع : بيني وبينك القضاء ، فقال الشيخ علي الفارس : الرجل فقير و لا يملك تكاليف القضوة ، وما يترتب عليها من حق القاضي و إكرامه ، فقال نافع : أنا كفيل بتكاليف القضاء .
وصل قاضي الأعراب(( فارع العرام )) من العريضة إلى الجنوب الشرقي من بيسان ، وفي خيمة القضاء ، قصّ أبو شلاش القصة على القاضي كما روتها ابنته ، فاكتفى القاضي بشهادة المدّعي وقال: قال الله تعالى ، بسم الله الرحمن الرحيم ((( و إذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل ))) صدق الله العظيم . يا أبا شلاش ، قدّر الله وما شاء فعل ، جاء الرجل بناءً على دعوة ابنتك لها لنجدتها ، فلا حقَّ لك عنده ، و لو أدين الرجل على نخوته لأنقطع الخير بين الناس و ما هبّ أحد لعون أحد . فقال نافع : كم ثمن ناقتك ؟ فقال : (25) خمسة وعشرون جنيهاً فلسطينياً ، فقال نافع : قم واذبح الناقة ، و بعها على العرب، وانظر كم تجمع .
قام أبو شلاش و معه بعض الحضور فعقروها ، وعلى عجلٍ تقاسموها فيما بينهم بسعر زهيد ، لم يتجاوز الرطل الواحد ستة قروش ، فجمعت خمسة عشر جنيها فلسطينيا . فقال نافع :ولك مني عشرة جنيهات لوجه الله تعالى ، ثم إكراما للقاضي والحضور ، فتكون بذلك قد استكملت ثمنها .
مصرية وافتخر- فرسان لهم بصمات
- مساهماتي : 1167
نقاطي : 1880
تسجيلي : 10/12/2011
مصرية وافتخر- فرسان لهم بصمات
- مساهماتي : 1167
نقاطي : 1880
تسجيلي : 10/12/2011
رد: قصص وحكايات من التراث الفلسطيني
قصه روعه
مثل من كتبها
مثل من كتبها
السيد حسن2- مشرف الاقسام الادبية والثقافية
- مساهماتي : 1073
نقاطي : 1215
تسجيلي : 10/01/2012
رد: قصص وحكايات من التراث الفلسطيني
طيب انتقاؤك سيدتي
أدبيا" وإنسانيا" وعربيا"
سلمت الإختيار والإنتقاء الحلو
Al_maroof- نائب مدير
- منتدي عبير الاسلام
مساهماتي : 14235
نقاطي : 22524
تسجيلي : 30/10/2011
مزاجي : محتسب وحامد لربي
عبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير الإســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام :: (( عبير )) الاقسام العامة :: فلسطين في القلب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى