الممر المسحور
2 مشترك
عبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير الإســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام :: الاقسام الادبية والثقافية :: منتدي التاريخ والقصص والروايات
صفحة 1 من اصل 1
الممر المسحور
الممر المسحور
فى البدء لم يفطن إلى حجم المعجزة، وتفسيرها، وكيفية حدوثها، على العكس تماما راح يمسك بالكوب الزجاجى السميك، ويشرب النعناع الدافئ فى سعادة، دون أن ينتبه إلى غرابة ما حدث إلا بعد مرور وقت طويل. بمجرد أن انتبه اهتز الكوب فى يده، وانتصب شعره، واقشعر جلده، وسال فؤاده فى صدره محاولا تفسير الأمر، وكيف حدث ما حدث!
والحكاية أنه لم يكن فى أى وقت واثقا من صحة قراره بالسفر خارج مصر. لذلك قام اللا وعى بالمطلوب منه باستمرار. حينما يعلو اللحن الحزين فى روحك، وتكون فى الوقت نفسه راغبا عن الإصغاء إليه، فإنك - دون وعى منك - تحاول بضجيج الأفكار أن تشوش عليه، حتى لا تتمكن من سماعه. هذا ما حدث بالضبط فى الأسابيع القليلة التى سبقت السفر. السخط من كل شىء وأى شىء. الفقر والقهر ومظالم الاستبداد، واليأس والبؤس وأصناف الفساد. فى كل يوم تطالعنا الصحف بقهر الإرادة، واستغلال السلطة، والفُجر بالنفوذ. ارتفاع الأسعار، سرقة الأصول، انتشار المرض، المياه الملوثة، انقطاع الكهرباء، فضائح الكبراء، توريث البلد. كلها أعراض لمرض مستعصٍ: سِفَاح السلطة بالثروة التى أنجبت «أولاد الحرام»، ثروتهم آلاف الملايين، ورغم ذلك يصدرون قوانين تعصف بالفقراء من أجل أن يتحسن ترتيبهم فى قائمة «المليارديرات».
سأسافر. سأرحل عن هذا البلد. سأركّب لنفسى جناحين وأحلق إلى بعيد. سأصعد إلى السماء السابعة، سأنسى أننى مصرى وأتذكر أننى إنسان. سأنفذ من الثقب الضيق وأنطلق إلى الأفق الإنسانى الأرحب. (والبلد دى مفيش فايدة فيها وماتستاهلش الواحد يضحى عشانها ولا حتى بكيس شيبسى!!).
كانت غضبته كاسحة ولذلك لم يجرؤ أصدقاؤه على أن يجادلوه. لماذا ستسافر، وما هدفك من السفر؟ لست غنيا فى بلادك ولكنك أيضا لست فقيرا. لست حرا فى بلادك ولكنك أيضا لست مسجونا.. لست عزيزا فى بلادك ولكنك أيضا لست مقهورا.. بين بين.. والبين بين الذى لا يعجبك الآن إذا قارنته بالبؤس البشرى لوجدته جنات عدن! ماذا كنت ستقول إذن لو كنت تسكن فى العشوائيات، أو أصابك سرطان الكبد، أو وجدت نفسك مسجونا على البرش؟! هذه أفكار ربما دارت بخاطر أصدقائه، لكنه لم يكن مستعدا لسماعها.
يستمر فى عناد فى إجراءات السفر. يختم عشرات الأوراق، ويمر على عشرات المكاتب، ويستمر فى إجراءات السفر. يخمد اللحن الشجىّ المنبعث من أعماقه، ويستمر فى إجراءات السفر. يوئد الخفقة الخافتة فى قلبه ويستمر فى إجراءات السفر. يخاصمه النوم ويستمر فى إجراءات السفر. يتفادى أن يرنو إلى أرجاء البيت ويستمر فى إجراءات السفر، تهجم عليه ذكريات الماضى ويستمر فى إجراءات السفر.
يختم الضابط الجواز بطريقة روتينية دون أن ينظر إليه. يعبر الحد الفاصل بين مصر والعالم الخارجى، يصعد الطائرة شاحبا وينظر للسماء فى غرابة، يهبط إلى البلد الغريب مأخوذا وقد سقط قلبه فى قدميه. يحمل حقيبته وينصرف. فى الفندق يقلب الأمر على جوانبه ثم يطفئ النور لينام. يشعر بحنين طاغٍ إلى ارتشاف مشروب ساخن. يتذكر فى أسى - وهو يضع رأسه على الوسادة - أنه لم يحضر معه كوبه المفضل، ذا القاعدة الزجاجية السميكة، الذى كان أيضا كوب أمه المفضل، رحمها الله.
تأخذه الحياة فى دواماتها، تقطع الطيور سماء الكوكب الأرضى بأكمله حنينا إلى موطن الأجداد، وتنتظم الأسماك فى رحلة طويلة مهلكة فى المياه السوداء الباردة صوب الجنوب الدافئ لتمارس الحب وتضع البيض وتحيى ذكريات الآباء.
يحن الغريب إلى أصله، والطير إلى وكره، ولا يسكن الوليد إلا حينما يسمع دقات قلب أمه التى كان يسمعها وهو فى رحمها. فى الأيام التالية تساءل: ماذا صنع بنفسه، ولماذا كان السفر؟.. فى الأسابيع التالية سكن الضجيج تماما، فصار يسمع صراخ روحه بكل وضوح. يستيقظ فى الصباح فيُخيل إليه أنه يرى معالم غرفته. وبدأ يفتقد كوبه المفضل، كتبه التى تركها فى المكتبة، كراريس أشعاره القديمة، قميصا نساه هناك ويود أن يلبسه. الطريق المفضى إلى البيت. نداء الكروان فى الأمسيات المقمرة. نوعية طرشى متبلة لم يكن يأكل الطعام إلا بها، وجه بائعة الخضار على مفرق الشارع. صبى المكوجى الذى يخطئ فى الحساب حين يكون الخطأ فى صالحه. وجوه أصدقائه القدامى. ضحكة تخرج من القلب رغم البؤس السائد، نكات فى غاية الذكاء، لا يعرف من أبدعها.
كان واثقا أنه لو عاد إلى بلاده سيلعنها، رغم ذلك لم يستطع أن يمنع إحساسه بالحنين الطاغى.
والذى حدث ولا يعرف له تفسيرا، ولا يجرؤ أن يحكيه لأحد، لكن المؤكد أنه كان مستيقظا تمام اليقظة، لم يكن هناك أى احتمال أن يكون نائما ويحلم. كان راقدا على فراشه، مستيقظا على سريره، عاجزا عن النوم، شاردا فى ذكرياته الماضية، حين تذكر فجأة كوبه الزجاجى المفضل، الذى كان فى الأصل كوب أمه، شعر بالحنين إليه، فغادر فراشه مغمض العينين ليحضره إلى جواره، اجتاز الغرفة إلى الممر، اخترق الممر إلى المطبخ، ومشى فى المطبخ إلى الكوب، ثم صب النعناع الدافئ. وعاد إلى فراشه ليشربه فى استمتاع.
وفجأة انتصب من فراشه مذعورا. وألقى نظرة على الكوب فارتجفت يداه. إنه هو، كوبه القديم، ذو القاعدة الزجاجية السميكة، يحمل رائحة أمه وأيامها الخالية. راح يرمقه دون وعى، عاجزا عن التفسير. الكوب فى المطبخ بمصر، يفصله عنها بحر وصحراء وجبال ودموع. فكيف ذهب إلى هناك بهذه البساطة، ثم عاد فى لمحة عين، ومعه الكوب الغالى العزيز؟!
لم يجد تفسيرا واضحا، فى الحقيقة لم يكن هناك أى تفسير. لكن ما كان يهمه، منذ تلك اللحظة وإلى الأبد، أنه اكتشف الممر المسحور، الذى يقوده إلى عالمه القديم، يجتاز المستحيل بقوة الحنين.
فى البدء لم يفطن إلى حجم المعجزة، وتفسيرها، وكيفية حدوثها، على العكس تماما راح يمسك بالكوب الزجاجى السميك، ويشرب النعناع الدافئ فى سعادة، دون أن ينتبه إلى غرابة ما حدث إلا بعد مرور وقت طويل. بمجرد أن انتبه اهتز الكوب فى يده، وانتصب شعره، واقشعر جلده، وسال فؤاده فى صدره محاولا تفسير الأمر، وكيف حدث ما حدث!
والحكاية أنه لم يكن فى أى وقت واثقا من صحة قراره بالسفر خارج مصر. لذلك قام اللا وعى بالمطلوب منه باستمرار. حينما يعلو اللحن الحزين فى روحك، وتكون فى الوقت نفسه راغبا عن الإصغاء إليه، فإنك - دون وعى منك - تحاول بضجيج الأفكار أن تشوش عليه، حتى لا تتمكن من سماعه. هذا ما حدث بالضبط فى الأسابيع القليلة التى سبقت السفر. السخط من كل شىء وأى شىء. الفقر والقهر ومظالم الاستبداد، واليأس والبؤس وأصناف الفساد. فى كل يوم تطالعنا الصحف بقهر الإرادة، واستغلال السلطة، والفُجر بالنفوذ. ارتفاع الأسعار، سرقة الأصول، انتشار المرض، المياه الملوثة، انقطاع الكهرباء، فضائح الكبراء، توريث البلد. كلها أعراض لمرض مستعصٍ: سِفَاح السلطة بالثروة التى أنجبت «أولاد الحرام»، ثروتهم آلاف الملايين، ورغم ذلك يصدرون قوانين تعصف بالفقراء من أجل أن يتحسن ترتيبهم فى قائمة «المليارديرات».
سأسافر. سأرحل عن هذا البلد. سأركّب لنفسى جناحين وأحلق إلى بعيد. سأصعد إلى السماء السابعة، سأنسى أننى مصرى وأتذكر أننى إنسان. سأنفذ من الثقب الضيق وأنطلق إلى الأفق الإنسانى الأرحب. (والبلد دى مفيش فايدة فيها وماتستاهلش الواحد يضحى عشانها ولا حتى بكيس شيبسى!!).
كانت غضبته كاسحة ولذلك لم يجرؤ أصدقاؤه على أن يجادلوه. لماذا ستسافر، وما هدفك من السفر؟ لست غنيا فى بلادك ولكنك أيضا لست فقيرا. لست حرا فى بلادك ولكنك أيضا لست مسجونا.. لست عزيزا فى بلادك ولكنك أيضا لست مقهورا.. بين بين.. والبين بين الذى لا يعجبك الآن إذا قارنته بالبؤس البشرى لوجدته جنات عدن! ماذا كنت ستقول إذن لو كنت تسكن فى العشوائيات، أو أصابك سرطان الكبد، أو وجدت نفسك مسجونا على البرش؟! هذه أفكار ربما دارت بخاطر أصدقائه، لكنه لم يكن مستعدا لسماعها.
يستمر فى عناد فى إجراءات السفر. يختم عشرات الأوراق، ويمر على عشرات المكاتب، ويستمر فى إجراءات السفر. يخمد اللحن الشجىّ المنبعث من أعماقه، ويستمر فى إجراءات السفر. يوئد الخفقة الخافتة فى قلبه ويستمر فى إجراءات السفر. يخاصمه النوم ويستمر فى إجراءات السفر. يتفادى أن يرنو إلى أرجاء البيت ويستمر فى إجراءات السفر، تهجم عليه ذكريات الماضى ويستمر فى إجراءات السفر.
يختم الضابط الجواز بطريقة روتينية دون أن ينظر إليه. يعبر الحد الفاصل بين مصر والعالم الخارجى، يصعد الطائرة شاحبا وينظر للسماء فى غرابة، يهبط إلى البلد الغريب مأخوذا وقد سقط قلبه فى قدميه. يحمل حقيبته وينصرف. فى الفندق يقلب الأمر على جوانبه ثم يطفئ النور لينام. يشعر بحنين طاغٍ إلى ارتشاف مشروب ساخن. يتذكر فى أسى - وهو يضع رأسه على الوسادة - أنه لم يحضر معه كوبه المفضل، ذا القاعدة الزجاجية السميكة، الذى كان أيضا كوب أمه المفضل، رحمها الله.
تأخذه الحياة فى دواماتها، تقطع الطيور سماء الكوكب الأرضى بأكمله حنينا إلى موطن الأجداد، وتنتظم الأسماك فى رحلة طويلة مهلكة فى المياه السوداء الباردة صوب الجنوب الدافئ لتمارس الحب وتضع البيض وتحيى ذكريات الآباء.
يحن الغريب إلى أصله، والطير إلى وكره، ولا يسكن الوليد إلا حينما يسمع دقات قلب أمه التى كان يسمعها وهو فى رحمها. فى الأيام التالية تساءل: ماذا صنع بنفسه، ولماذا كان السفر؟.. فى الأسابيع التالية سكن الضجيج تماما، فصار يسمع صراخ روحه بكل وضوح. يستيقظ فى الصباح فيُخيل إليه أنه يرى معالم غرفته. وبدأ يفتقد كوبه المفضل، كتبه التى تركها فى المكتبة، كراريس أشعاره القديمة، قميصا نساه هناك ويود أن يلبسه. الطريق المفضى إلى البيت. نداء الكروان فى الأمسيات المقمرة. نوعية طرشى متبلة لم يكن يأكل الطعام إلا بها، وجه بائعة الخضار على مفرق الشارع. صبى المكوجى الذى يخطئ فى الحساب حين يكون الخطأ فى صالحه. وجوه أصدقائه القدامى. ضحكة تخرج من القلب رغم البؤس السائد، نكات فى غاية الذكاء، لا يعرف من أبدعها.
كان واثقا أنه لو عاد إلى بلاده سيلعنها، رغم ذلك لم يستطع أن يمنع إحساسه بالحنين الطاغى.
والذى حدث ولا يعرف له تفسيرا، ولا يجرؤ أن يحكيه لأحد، لكن المؤكد أنه كان مستيقظا تمام اليقظة، لم يكن هناك أى احتمال أن يكون نائما ويحلم. كان راقدا على فراشه، مستيقظا على سريره، عاجزا عن النوم، شاردا فى ذكرياته الماضية، حين تذكر فجأة كوبه الزجاجى المفضل، الذى كان فى الأصل كوب أمه، شعر بالحنين إليه، فغادر فراشه مغمض العينين ليحضره إلى جواره، اجتاز الغرفة إلى الممر، اخترق الممر إلى المطبخ، ومشى فى المطبخ إلى الكوب، ثم صب النعناع الدافئ. وعاد إلى فراشه ليشربه فى استمتاع.
وفجأة انتصب من فراشه مذعورا. وألقى نظرة على الكوب فارتجفت يداه. إنه هو، كوبه القديم، ذو القاعدة الزجاجية السميكة، يحمل رائحة أمه وأيامها الخالية. راح يرمقه دون وعى، عاجزا عن التفسير. الكوب فى المطبخ بمصر، يفصله عنها بحر وصحراء وجبال ودموع. فكيف ذهب إلى هناك بهذه البساطة، ثم عاد فى لمحة عين، ومعه الكوب الغالى العزيز؟!
لم يجد تفسيرا واضحا، فى الحقيقة لم يكن هناك أى تفسير. لكن ما كان يهمه، منذ تلك اللحظة وإلى الأبد، أنه اكتشف الممر المسحور، الذى يقوده إلى عالمه القديم، يجتاز المستحيل بقوة الحنين.
محسن- عضو مؤسس
- مساهماتي : 336
نقاطي : 472
تسجيلي : 27/10/2011
مزاجي : بخير
رد: الممر المسحور
اشكرك اخى محسن على مواضيعك الرائعه
السيد حسن2- مشرف الاقسام الادبية والثقافية
- مساهماتي : 1073
نقاطي : 1215
تسجيلي : 10/01/2012
عبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير الإســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام :: الاقسام الادبية والثقافية :: منتدي التاريخ والقصص والروايات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى